باتت كرة القدم مُملّة لحد ما في هذه الأيام، بات كل شيء سهلاً ومُمهَّداً، مُنظَّما ومُرتَّبا بشكل زائد عن الحد، هناك فترة انتقالات محددة بمواعيد معلومة، وبإمكان أي لاعب أن يختار النادي الذي يرغب في تمثيله، ويمكن أن تستمر عملية التفاوض بينهم لشهور، يعرض النادي راتبا واللاعب إمَّا أن يقبل وإما أن يرفض، المدربون كذلك يمكنهم أن يرفضوا الذهاب إلى نادٍ ويذهبوا لغيره.
الماضي الذي لم يكن فيه عقود ومفاوضات وآراء واختيارات، وسياسة العرض والطلب ليس لها وجود إطلاقا، وعملية انتقال اللاعب من فريق إلى آخر لا تحتاج إلا إلى بضع دقائق ويكون كل شيء منتهيا، ويقبل اللاعب العرض بكل سهولة، لماذا؟ لأنه "عرض لا يمكن رفضه".
لم تكن تلك العروض تُقدَّم للاعبين والمدربين فقط، الحكام كذلك، ضربة الجزاء التي يمنحها لفريق دون آخر قد تودي بحياة والده، أو تمنع ابنه من استكمال دراسته.
في نهاية السبعينيات، ظهر لاعب جديد في صفوف دينامو برلين يُدعى لوتس إيغندورف، كان لاعبا مميزا للغاية، أطلقت عليه الجماهير حينها "بيكنباور الشرق"، ويقال إنه كان اللاعب المُفضَّل لإريك ميلكه رئيس ستاسي ورئيس نادي دينامو برلين في الوقت ذاته.
لكن رغم تقدير الجميع له في الشرق ودوره الكبير في فريق دينامو، فإن فكرة الفرار إلى الغرب كانت تسيطر على عقل إيغندورف، كان يطمح في التنعُّم بالامتيازات المادية التي يتمتع بها أقرانه في الغرب، وكان يحلم بأن يلتحق بالغرب بأسرع ما يمكن ليُحقِّق طموحاته وأحلامه، وبالفعل في مارس/آذار 1979، وأثناء وجود دينامو برلين في ألمانيا الغربية للعب مباراة ودية أمام كايزرسلاوترن، وفي اليوم التالي للمباراة، نجحت خطة إيغندورف.
انشق إيغندورف فجأة عن البعثة، وقفز في سيارة أُجرة وفرَّ هاربا، وطلب اللجوء السياسي إلى ألمانيا الغربية، استقبله الغرب…
لذلك ظلَّ إيغندورف مُهدَّدا من ستاسي طوال الوقت، ولم يكن بإمكانه السفر مع فريقه لمواجهة أي فريق يقع في دولة حليفة لألمانيا الشرقية خوفا من أن يتعرّض للاعتقال هناك، لكنه كان شاهدا على إنجاز كايزر سلاوترن الأوروبي حين فاز على ريال مدريد بخُماسية، وصعد إلى المربع الذهبي للبطولة، وحقّق مع الفريق مسيرة جيدة في المجمل، قبل أن ينتقل إلى نادي أينتراخت براونشفايغ آخر محطاته في كرة القدم.
تبدأ الإثارة في أمسية 5 مارس/آذار 1983، حيث قضى إيغندورف ليلته في حانته المفضلة برفقة أصدقائه، ثم ودّعهم ورحل، وقاد سيارته الألفا روميو الرياضية عائدا لمنزله، لكنه بشكل غريب اصطدم بشجرة عند أحد المنعطفات في طريق عودته ونُقل إلى المستشفى على الفور، وأثبتت التحاليل وجود نسبة عالية من الكحول في جسده ما يُرجِّح أنه فقد السيطرة على السيارة مما أدى إلى الحادث، وبعد يومين، توفي إيغندورف في المستشفى، ولم تخضع جثته للتشريح، واستبعدت الشرطة أي شبهة جنائية في الحادث.
وقد خرجت بعض النظريات بالفعل ممن حضروا الحادث في ذلك الوقت، نقل بعضهم أن سيارة نقل كبيرة فتحت أضواءها الكاشفة الأمامية فجأة في وجه إيغندورف أثناء عبوره للمنعطف، مما أفقده الرؤية لحظيا، واصطدم بالشجرة، بينما يذهب الصحفي هاربيرت شفان إلى أن عملاء ستاسي اختطفوا إيغندورف وحقنوه بمزيج من الكحول والعقاقير المخدرة، ثم طُلب منه قيادة سيارته والابتعاد فورا، ليقود إيغندورف سيارته في ذعر شديد ويصطدم بالشجرة، لكن ظلّت هذه تكهنات وتخمينات ولم يصل أي شخص إلى تفسير مؤكد لما حدث.
ظلّ التحقيق في هذه القضية ممتدا حتى وقت قريب، وفي عام 2010 شهدت القضية تطوُّرا جديدا عندما اعترف كارل هاينتز فيلغنر، عميل ستاسي السابق، أمام محكمة دوسلدورف أنه تلقى أوامر باغتيال إيغندورف لكن العملية لم تتم.
لم تصل التحقيقات إلى نتيجة قاطعة بالفعل، لكن الجميع تأكد أن الحادث لم يكن عفويا أبدا، وأن مخاوف إيغندورف التي طالما تحدّث عنها بأن ستاسي لن يتركه كانت حقيقية، وتأكد الجميع كذلك أن ستاسي كان أسوأ مما ظن الجميع، وأنهم لم يغفروا هرب لاعب كرة القدم مهما حدث.